بدأت فرنسا حملتها في مالي ودس أنفها في شؤون مستعمرتها السابقة متعذرة بمحاربة "القوى الإسلامية المتطرفة" وضرورة وضع حد لسطوتها في مالي. خططت وأرست القواعد والجنود وقررت القصف ومطاردة هذه الجماعات، قتلت إلى حد الآن العشرات من عناصر" أنصار الدين" وقصفت بعض خزانات وقودها، وقال الجيش المالي إنه استعاد السيطرة على بعض المدن. أعلنت فرنسا أنها لن تتعدى الجنوب المالي، وإنه ليس من ضمن مخططاتها التوجه إلى الشمال، إنما ستمهد للقوات الأفريقية للقيام بتلك المهمة وتحرير الشمال من قبضة "الجماعات الإسلامية" المتطرفة. وفعلاً بدأت بعض الدول الإفريقية بإرسال قوات إلى مالي، لكن يبقى إعلان فرنسا مجرد وعد وتظل هناك حقيقة أنها دخلت من دون غطاء دولي شرعي.
من ناحيتها قامت عناصر ”أنصارالدين“ بقتل طيار فرنسي وعشرات الجنود الماليين وإسقاط طائرات لفرنسا وقالت إنها سيطرت على مدن جديدة. وقالت منظمة " هيومن رايتس ووتش" إنه قتل عشرات المدنيين، خلال اليومين الأولين من هذه الحرب. هي الحرب إذاً حيث الكر والفر. حرب بين العصابات والجيوش. حرب يرى أحد أطرافها أن مصيره الجنة. معركة بين قوى أجنبية استعمرت تلك الأرض في السابق وبعض السكان المحليين المتطرفين. صراع قوض مشروع وحلم شعب ينتظر الاستقلال. أزمة قد تمتد تأثيراتها إلى دول الجوار .
خلفية عن المعركة وساحتها
الهجمات الفرنسية التي بدأت هذه الأيام، ماهي إلا مقدمة لحرب ”تحرير شمال مالي“ أي أزواد وأهم مدن هذا الإقليم هي:
العاصمة قاوو، والعاصمة الثقافية تمبكتو، وكيدال. وتبلغ مساحة الإقليم 822 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة فرنسا وبلجيكا. أما سكانها فأغلبهم من الطوارق مع وجود للمكون العربي والزنجي. أرض أزواد قامت فيها عدة ثورات من أجل الاستقلال، ورفض التهميش، وقمع الجيش المالي. بدأت بثورة 1963 التي واجهها الرئيس المالي آنذاك مديبو كيتا بالقمع الشديد والتنكيل وعمليات الإبادة. كذالك ضربت هذه الأرض موجة جفاف عام 1973 تسببت في نزوح جماعي منها. قامت فيها ثورة عام 1990، قادها إياد أغ غالي، بذل فيها شعب أزواد الغالي والنفيس وضحى فيها تضحيات جسام وانتهت بإتفاق سلام، يتم بموجبه حكم أزواد بمركزية أقل وتنمية المنطقة. لكن ذلك بقي مجرد وعد. وفي سنة 2006، تحرك الأزواديون مرة أخرى، وفشلوا في تحقيق حلمهم. أما بداية الأزمة الحالية فبدأت مع تهاوي نظام القذافي، حيث خرج بعض المقاتلين الأزواديين، الذين قاتلوا في صفوف قوات جيش القذافي، من ليبيا حاملين معهم سلاحهم وعتادهم وتوجهوا إلى مالي. وخططوا مع أطراف أزوادية أخرى، من أجل السيطرة على الشمال المالي، وإسقاط سلطة بامكو. وانضمت لهم بعض العناصر من الأزواديين المنضويين تحت لواء الجيش المالي ونجحوا في مسعاهم.
لكن هذه القوى اختلفت فيما بعد. فحركة تحرير أزواد أعلنت الاستقلال وأنصار الدين أعلنوا تطبيق الشريعة. كما تلقت هذه القوى الأزوادية الدعم من قبل بعض القوى المتطرفة مثل ”التوحيد والجهاد“ التي قامت هي الأخرى بإعلان إمارتها الإسلامية خارج نطاق حكم الدولة الأزوادية، التي أعلنت حركة تحرير أزواد استقلالها وبدأت تطبيق ”الشريعة الإسلامية“من وجهة نظرها التي تتضمن تقطيع الأيادي وتحريم التلفزيون وكل أمور الحداثة. وانقلبت على حلم الشعب الأزاودي في دولة مستقلة والذي بدأت أولى تجلياته مع إعلان حركة تحرير أزواد. يرى الكثيرون أن السبب وراء انتشارها في الشمال المالي هو عدم وجود تنمية حقيقية فيه وتركه مكاناً خارج نطاق الزمن. وكذلك الوقوف ضد قيام دولة مستقلة لشعب أزواد في أرضه. فمالي لم تستطع يوماً السيطرة على الشمال، ولم تقم بتنميته، بل تركته مكاناً للمجرمين وتجار المخدرات الذين يرتبطون بعلاقات وطيدة مع حكامها والمتطرفين. وكان هدفها الأسمى هو قمع انتفاضات شعب أزاود.
لا رابح في الحرب
يمكن القول إن فرنسا قد أدخلت نفسها في مأزق ووحل شديد الصعوبة وذلك بقرارها التدخل في دولة لا جيش لها ولا حكومة. دولة مؤسساتها منهارة تحكمها عناصر عسكرية انقلابية. بدأت حرباً في منطقة يحلم شعبها بالاستقلال. صحيح أن حركة أنصار الدين متطرفة، إلا أنها تختلف عن القاعدة فهم أصحاب أرض وأبناء بيئة وليسوا مقاتلين قادمين من بلاد أخرى. و يقودهم أحد أهم الشخصيات النافذة في منطقة أزواد وهو إياد أغ غالي، ابن المنطقة، وواحدة من أكبر قبائل أزواد، والذي يرتبط بتحالفات قوية مع بقية القبائل الطارقية والعربية الموجودة في أزواد. طبعاً هناك تواجد للقاعدة في المنطقة ولها قوتها، لكن ليس بحجم جناح أنصار الدين.
ستظل فرنسا تقصف وتدمر وتقتل ويقتل من جنودها ويسقط من طائراتها دون جدوى. قد تساعد الجيش المالي في استعادة مدن أكثر. ذلك الجيش الذي يكن له سكان منطقة أزواد كره شديد، لما أذاقهم طوال سنين من مر العذاب وعمليات الإبادة والتطهير العرقي. لكن فرنسا لن تستطيع حسم المعركة لأن المقاتلين يعرفون المنطقة. ويعتبر أبناؤها أن حربهم مقدسة، لأن مصير الميت فيها حسب اعتقادهم هو“الجنة“. ومن جهة أخرى يعرفون أن الهزيمة تعني نهايتهم. ففرنسا لن ترحمهم. وسيبدأ توافد المقاتلين من كل بقاع الأرض للوقوف في وجه التدخل ”الصليبي الفرنسي“ في مالي والترويج بأن مالي أصبحت ”منطقة جهاد“.
ستتحول المنطقة إلى أفغانستان جديدة وقد تمتد المعركة إلى بقية دول الجوار وحدوث الكارثة الكبرى، وهي تحول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، إلى منطقة نزاع دائم، مثلما حدث في الأزمة الأفغانية التي لم تستطع فيها الولايات المتحدة الأمريكية الحسم إلى الآن.
نحن وحرب مالي
سيكون لحرب مالي بالتأكيد تأثير قوي على موريتانيا. وذلك لكونها إحدى دول الجوار التي ترتبط بحدود برية شاسعة مترامية الأطراف مع مالي خاصة منطقة الشمال. فالشمال المالي هو العمق الشرقي لموريتانيا. كذالك يرتبط الشعبان بعلاقات وثيقة علاقات تجارية وعرقية. فالعربي في أزواد، له قريب في موريتانيا. كذالك الزنجي في باماكو. الحرب تعني تشرد الآلاف والهجرات الجماعية وموريتانيا ستكون هي الوجهة الأولى للمتضررين من الحرب. خاصة أن ليبيا تشهد الآن فترة انتقالية بعد سقوط الطاغية القذافي، يتهم الفاعلون فيها بعض الأزواديين بالقتال بجانب القذافي. وليبيا كانت أهم وجهات النازحين من شعب الطوارق أيام قمع الجيش المالي لهم. نزوح شعب أزواد إلى موريتانيا فعلاً بدأ في الأيام الأولى من تحركات العام الماضي التي قامت بها حركة تحرير أزواد والقوى المتطرفة، من أجل إسقاط سيطرة الجيش المالي على الشمال.
فقد جاء إلى موريتانيا ألاف الأزواديين ونصبت لهم مخيمات في الشرق الموريتاني. ومع بداية التدخل الفرنسي ستتزايد الأعداد النازحة إلى موريتانيا. سيؤدي هذا النزوح إلى ضغط كبير على موريتانيا التي يعاني شعبها الفقر وسوء التسيير. فهموم الشعب الأزوادي ستنتقل إلى شعب رغم غنى دولته يرزح تحت نير العوز. فعلى سبيل المثال قام بعض سكان مدينة باسكنو الموريتانية، حيث يوجد مخيم للنازحين الأزوادين، بالتسجيل في مخيمات الإيواء الأزوادية من أجل أخذ المساعدات التي تعطيها هيئات الإغاثة الدولية، وذالك لفقرهم ولتضررهم من الحرب. فاللاجئون الازواديون لن يجدوا أمامهم نظاماً جاهزاً لاستيعاب أزمتهم، خاصة إن تضاعف عددهم. وسيتقاسمون مع الشعب الموريتاني المعاناة والذل إلا إذا قامت هيئات الإغاثة الدولية بدور جبار لعدم حدوث كارثة إنسانية في مخيمات اللاجئين الأزوادين. كذلك ستحتاج فرنسا جهود موريتانيا في معركتها ضد ”أنصار الدين“ ستحتاج جيشها وأرضها، لأن تكلفة الصراع مع العصابات المسلحة ستكون باهظة وفرنسا تنظر لموريتانيا كما تنظر أمريكا لباكستان في حربها مع طالبان. وحين يذعن الرئيس الموريتاني لإرادة فرنسا ولو بمجرد تقديم دعم لوجسيتي بسيط، ستكون موريتانيا هدفاً لهجمات انتقامية من أنصار الدين والقاعدة. كذالك السكان المحليون الرافضون للتدخل الفرنسي في مالي. وقد تكلف الرئيس كرسيه بفقدانه ولاء جنرالات الجيش، لكون الجيش الموريتاني غير قادر على الحرب هذه الأيام، فهو في حالة من الضعف تجعله عاجزاً عن خوض أي حرب خاصة إن كانت خارج الحدود.
مشاركة موريتانيا في الحرب ستحدث حالة من الغضب الشعبي وذلك لكون فرنسا هي من يقود هذه الحرب وتتدخل بجنودها وافتقادها للشرعية الدولية. وهذا ما يعتبره الكثيرون غزواً أجنبياً وطمعاً فرنسياً في السيطرة على المنطقة. كذلك يعتبر أغلب الموريتانيين هذه الحرب ”حرب بين كافرين“ ولا تخصهم. يمكن أن نستشف من خلال المعطيات السابقة أن هذه الحرب لن تؤدي إلى الاستقرار المنشود في المنطقة ولن تقضي على التطرف وسطوة الجماعات المتطرفة، بل ستحول المنطقة إلى ساحة حرب مستمرة. وأن المنطقة تكتوي بنار عدم السماح للشعب الأزوادي بتقرير مصيره وتأسيس دولة في أرضه، التي عاش فيها طوال قرون. وطن تصان فيها كرامته ويحفظ فيها هويته فلعنة الوقوف في وجه إرادته ستظل تطارد المنطقة. كذلك غياب التنمية في تلك المنطقة وجعلها ملجأ مناسباً لكل فار من العدالة ومتاجر بالمخدرات، كما مقراً للجهاديين المتطرفين. ويمكن الجزم أنه لن يخرج أي من الأطراف منتصراً في هذه الحرب.